الاثنين، 6 أكتوبر 2008

‏أقوال رئيس الوزراء خلال مراسم إحياء ذكرى بنيامين زئيف


أمام شاهد قبر المرحوم بنيامين زئيف هرتصل وعلى الجبل الذي يحمل اسمه في إحدى قمم جبال أورشليم القدس تمنح دولة إسرائيل اليوم الكرامة والعزة للزعيم الذي جعل شعبه يسير على درب تحقيق الصلوات والأماني التي راودته منذ أجيال. لقد درجت العادة على تسميته "منظّر الدولة" إلا أن هذا اللقب متواضع ولا يرقى إلى جميع المضامين والوظائف التأريخية التي تولاها هذا الرجل. إذ لم يكن هرتصل مجرد منظّر بل ولّد الحركة الصهيونية وأرسى الأسس وخلق الآليات التي سمحت مع مرور الزمن بتحويل الرؤيا السامية إلى واقع سياسي ، واقع – وها نحن شاهدون عليه – تسامى للعُلا وفاق الرؤيا الأصلية ذاتها.

كان [الكاتب الفرنسي] فيكتور هوغو قد قال ذات مرة: "ثمة أمر أشد قوة من جميع قوى العالم ألا وهو الفكرة التي حان وقتها" ، وبالفعل يعود ظهور ثيودور هرتصل بصورة دراماتيكية مثله مثل نجم ساطع يتألق في ظلمة سماوات الشعب اليهودي نهاية القرن التاسع عشر ، يعود إلى الرسالة التي كان يحملها في الوقت المناسب. لقد وجدت رسالة الفكرة الصهوينية ، رسالة "دولة اليهود" أرضاً خصبة إذ إنها كانت تحوم في الأجواء قبل ذلك وكانت أمراً محسوساً لكن بدائياً وعديم الشكل. لقد نمت براعم الفكرة متجسدة بصورة رواد الصهيونية أي رجال "الاستيطان القديم" الذين خرجوا من أسوار أورشليم القدس وأسسوا قرية بيتاح تكفا ، ونشطاء حركة "محبّة صهيون" ، والقادمين الجدد من اليمن ، وطلائع موجة الهجرة اليهودية الأولى الذين أنشأوا القرى الزراعية الجديدة وغيرهم. غير أن كل هذه المكوّنات لم تشكل مجتمعةً حركة شعبية جماهيرية منظّمة ذات هدف سياسي محدد إلى حين ظهور هرتصل. وقد وجد هذا الشاب اليهودي ، الذي كان كاتباً مسرحياً وصحافياً موهوباً وشهيراً وكان بعيداً كل البعد عن واقع وهموم أبناء شعبه ، وجد نفسه فجأة شاهداً مندهشاً لعاصفة البغضاء المعادية لليهود التي اجتاحت فرنسا عقب تفجّر قضية درايفوس. وسرعان ما وجدت مشاعر هرتصل المهتزّة تعبيراً لها متمثلاً بالكراسة الصغيرة الحجم لكن الثورية المحتوى التي وضعها تحت العنوان البسيط والمفاجئ في آن "دولة اليهود". هكذا تجسّدت الفكرة الصهيونية وانطلقت ثم انتشرت انتشار النار في الهشيم. لقد نظر الملايين من أبناء الشعب اليهودي الذين تعرضوا للاضطهاد والتمييز والإهانة في شرق أوروبا وأصبحوا ضحايا التحريض والعقوبات والمجازر ، نظروا إلى هرتصل – إلى ذلك الرجل الذي تحوّل تماماً عما كان في السابق - وكأنه زعيم مخلّص ومفدى. إنه كان يمزج في هيئته ومنظره وهيبته بين سحر الملك والبصمة اليهودية العتيقة. من منطلق فاقتهم وفقرهم وحالتهم المزرية في البلدات الصغيرة والتخوم اليهودية [التي فرضها على اليهود النظام الروسي آنذاك] كان هؤلاء اليهود بتمنون المعجزات. وصارت "دولة اليهود" ، "المملكة الصغيرة" المنشودة هذه ، تلهب مشاعر الحنين والشوق لديهم.

أما لدى وفاة هرتصل ، ولم يكن عندها إلا في الرابعة والأربعين من عمره ، بعد مضي سبع سنوات ليس إلا على انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول ، فقد بدت الحركة الصهيونية تائهة ضالة ممزّقة تعتريها الخلافات عقب الجدل حول "مشروع الاستيطان في أوغندا". وكان شاب يهودي آخر أقام آنذاك في بلدة نائية في بولندا قد كتب في تلك الفترة إلى صديق له تهزّه المشاعر الجياشة معبراً بأسلوب بلاغي شديد المغزى عن عظمة ملهمة هرتصل في قلوب الأجيال الناشئة التي كانت ستقيم مستقبلاً دولة إسرائيل ، إذ قال: ".. لقد خابت آمالنا وأحلامنا! لقد مات مَن بعثها ونمّاها.. هناك برد وظلمة يحيطان بنا ، لم يعُد هناك إشعاع من نور الأمل ولا فيض من الأحلام.. غابت الشمس إلا أن ضوءها ما زال مشرقاً ، إن براغم النهضة التي غرسها في قلوبنا لن تذبل أبداً ، إن شرارة جذوة حبه لهذا الشعب القديم قدم التأريخ والتعيس ولهذه البلاد الجميلة الأرملة [أرض إسرائيل] ، هذه الجذوة التي أشعلها في أرواحنا ودمائنا لن تنطفئ.. إنني اليوم ، أكثر من أي وقت مضى ، أعتقد بل أوقن من نصرنا ، إنني متأكد من مجيء يوم – ولن يكون بعيداً – وقد عدنا إلى الأرض الرائعة ، أرض الأناشيد والحقائق.. أيتها أرض صهيون! إنك لتريْنَ أبناءك أحراراً يعيشون حياة تشعّ نوراً وحرية!".

لقد كان الشاب الذي سطّر هذه الكلمات يعيش في مدينة بلونسك البعيدة إلا أنه هاجر بعد سنتين إلى أرض إسرائيل من منطلق تصميمه على تجسيد الرؤيا الصهيونية السياسية التي وضعها هرتصل. كان اسمه دافيد غرين ألا وهو دافيد بن غوريون.

غير أن الرؤيا الصهيونية التي وضعها هرتصل افتقدت إلى عنصر ذي مغزى ألا وهو العنصر العسكري. لقد نشأت الصهيونية حركةً للتحرر الوطني لكنها كانت فريدة من نوعها حيث غابت عنها روح ملحمة الحروب وقد سعت منذ نشأتها إلى تحقيق أهدافها بطرق سلمية. كان هرتصل يأمل في الحصول على "صكّ" دولي يقرّ بحقوق اليهود في أرض إسرائيل بل إنه عمل جاهداً على تحقيق هذا الهدف لكن آماله قد خابت. وأجبرت المقاومة العربية العنيفة فيما بعد الشعب اليهودي مرغماً على التمنطق بالسيف الواقي إذ لَما كانت الصهيونية تنهض بدونه. وكان أول من أدرك هذه الحقيقة زعيم الحركة التصحيحية زئيف جابوتينسكي في مقالته الشهيرة "جدار الحديد" ثم تبعه قادة التيار العمالي الذين عمدوا بدايةً إلى اتهامه بتغليب الروح العسكرية. إن دولة اليهود التي تصورها هرتصل لم تقم ولم تضمن بقاءها بفضل صكّ دولي أو نعمة من الشعوب بل تمخضت عن كفاح عنيد شابته الدماء والعرق والدموع. لقد انتصرت الصهيونية وتولى الشعب اليهود زمام مصيره بيده وجمع شمله واستوطن بلاده واستنهض لغته وثقافته وحارب ودافع عن نفسه من البيئة المعادية المحيطة به وحقق مقابل ثمن باهظ ومؤلم حريته واعتلى مجدداً منبر التأريخ بصفته أمة سيادية ومستقلة ومعتدّة بنفسها وقوية. لقد تحولت هذه المعجزة التي أطلق عليها اسم "دولة إسرائيل" من حلم إلى واقع.

إن نصر الصهيونية لهو انتصار لرؤيا بنيامين زئيف هرتصل ، ذلك الرجل الذي كان أول من يحمل الشعلة وصار – بلسان الشاعرة البطلة حانا سينش – "عود الثقاب الذي احترق وأولع الشعلة".

وبالتالي يحق لهرتصل أن يحمل كل يهودي وإسرائيلي ذكراه بصفته أباً للنهضة الوطنية. ويجب على دولة اليهود السير على هديه ومن ثم – وحيث ما زالت الرؤيا بعيدة عن الواقع – التحرك من أجل تصحيح الأمور. أمامنا تحدٍ ثلاثي اقتداءً بهرتصل: ضمان الغالبية اليهودية الثابتة والمستديمة داخل حدود دولة إسرائيل ، والارتقاء بمستوى الدولة وصورتها الأخلاقية والاجتماعية ، وتحقيق الأمن والسلام المنشود مع جميع الجيران المحيطين بنا.

أما إذا شِئنا – وكنا قد أثبتنا ذلك – فلن تكون هذه الأمور ضرباً من الخيال



توقيع

مدونة ارض الموعد:

ليست هناك تعليقات: